أنهى مهرجان الجنادرية عامه التاسع و العشرين بحصيلة قدرت بـ مليونين وخمسمائة زائر، تفرقوا بين أجنحته و أنشطته المختلفة، وهذا الرقم الكبير الذي جاء لمهرجان يقام في مدينة واحدة من مدن المملكة؛ له دلالات عميقة لابد من الوقوف عندها وتحليلها بالنظر إلى الموجة العاتية للمهرجان وفكرته من قبل جماعات الرفض الإسلامي واستخدامها كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لشيطنته و تدنيسه اجتماعياً، عبر أجيال متعاقبة من المحتسبين وطوال دوراته السابقة ، ومع هذا كله ارتدت عليهم سهامهم ، وبقي المهرجان تظاهرة ثقافية واجتماعية وترفيهية ينتظره الناس في كل عام.
لم يكن مهرجان الجنادرية عبارة عن أسواق شعبية وأنشطة ثقافية وفكرية وحسب وإنما الأهم من ذلك أنه صنع رؤية متماسكة في التعامل مع الخطاب الديني المنغلق الذي أصبح المهرجان مقياساً تاريخياً له ؛ فحركة الممانعة الدينية المتشددة يمكن رصد معظم حراكها ونشاطها من خلال مصادماتها للمهرجان طوال سنواته السابقة ، وعبر عديد من الفتاوى والمنشورات والخطب التي استهدفته من رموز ذلك التيار ، المعتزل منهم أو من مازال على رأس الخدمة ، ومع ذلك كله تكسرت كل حرابهم على حصون الجنادرية ، وبقيت كما كانت ؛ مقصداً سنوياً لمن يريد المتعة ويتشوق للحياة الطبيعية التي يعيشها كل البشر على هذا الكوكب. تلك الأرقام تدل على أن الناس متشوقة لمنافذ الترفيه البريء التي تقطع وتيرة الحياة الجافة في السعودية ، والتي يسافرون من أجلها بأطفالهم ليتنفسوا هواء طبيعياً في كل إجازة ، ويضخوا أموالهم في خزائن دولٍ أجنبية ، كان وطننا وأهله أولى بتلك الأموال منهم ، لا لشيء إلا لأننا صدقنا أوهاماً صنعها وروجها الغلاة وخلقوا حولهم هالة كاذبة بأنهم يملكون القدرة والتأثير على الناس وأن الناس يأتمرون بأمرهم ، لكن أعداد الزائرين للجنادرية التي اخترقت حظرهم ووعيدهم وفتاويهم ؛ أثبتت أنهم (كذبة) نجحوا بدهاء بتسويقها على صنّاع القرار ، فعطلت كثيراً من مشاريع تنموية في البلد ، وضيعت فرصاً التقفها غيرنا واستثمروا ترددنا ومجاملتنا لتيار التخلف
لقد رسخت الجنادرية طريقاً (مجربا) في مواجهة التطرف يمكن استثماره وجعله استراتيجية للدولة في إدارة مشاريعها التنموية ، وبناء مجتمع ينعم فيه الإنسان بحقوق طبيعية كسائر البشر ، يحكمه القانون لا فتاوى وجماجم البشر.